المقاطعـة تسجل أكبر انتصار لتوحيد كلمة المغاربة على نظريـة «المدوايـخ»
وصلت المقاطعة إلى أسبوعها الرابع وخسائرها بلا حدود، وسط مخاوف من اتساع مداها، والحماس الفايسبوكي يزداد بعد بروز أثر المقاطعة، وردود الأفعال تباينت بين التخوين ووسم المقاطعين بـ”المداويخ، والجيعانين والمجهولين”، وتهديد الحكومة بمقاضاة من ينشر أخبارا زائفة وانقسام بيَن في صفوف الأغلبية الحكومية.
الخميس الماضي، أصدرت الحكومة بلاغا خلال اجتماعها الأسبوعي، تتوعد فيه ناشري الأخبار الزائفة بتوسيع دائرة العقوبات المنصوص عليها في مدونة النشر، المقاطعون ردوا على تصريحات الناطق الرسمي للحكومة مصطفى الخلفي، على هامش الاجتماع الحكومي، واعتبروا الأمر تهديدا بالسجن، ورغم تدخل وزير الاتصال لنفي وجود عقوبة السجن في جريمة نشر الأخبار الزائفة حسب قانون الصحافة الجديد، وتوضيحه أن الأمر يتعلق بغرامات فقط، فإن المقاطعين هاجموا بقوة مصطفى الخلفي ومن خلاله سعد الدين العثماني.
بدا الأمر مثل بقعة زيت اتسعت في المحيط الأزرق وأبدع المقاطعون نصوصا وأغان ورسومات كاريكاتورية… فـ “سنطرال” تحول إلى “سجنطرال”، وتمت إعادة تركيب نص بوكماخ الشهير: “أكلة البطاطس” ليتماشى مع إيقاع مقاطعة الحليب والمحروقات وماء سيدي علي، و”كنا تنعاينوا ينقصوا في ثمن الحليب والماء والغازوال، صدقو ناقصين ساعة”…
عود على بدء
انطلقت المقاطعة مثل كرة ثلج، ثم أصبحت سلوكا اجتماعيا عاما للمغاربة، كان منطلقها هو الميديا، خاصة الفايسبوك، وانتقل أثرها إلى الواقع، كانت هناك ثلاث شركات ركز المقاطعون عليها بحجة سيطرتها على أكثر من 60 بالمائة من حصة السوق، فيما اعتبر آخرون أن الأمر فيه خلفية سياسية استهدفت الشركات المعنية، وأمام التفاف المواطنين حول دعوى المقاطعة، خرج مدير شركة “سنطرال” عن طوعه ووصف المقاطعين بـ “الخونة”، فيما اعتبر وزير الاقتصاد والمالية أن المقاطعين مجرد “مداويخ”، ولم يبق الأمر حبيس الحكومة، بل امتد إلى أغلبيتها الحكومية، حيث خرج الوزير الحركي السابق محمد أوزين بتصريح يصف فيه المقاطعين بـ “الجيعانين”، وفي ما يشبه الالتقاء الغرائبي وجدت النائبة الاتحادية حنان رحاب مندفعة لوصم المقاطعين بـ “القطيع”، لكن اشتداد مطالب المقاطعين والتجاوب الشعبي مع المقاطعة دفع القيادية في حزب الاتحاد الاشتراكي إلى التراجع عن تصريحاتها والاعتذار للمقاطعين، وجعل شركة “سنطرال” التي وصلت خسائرها إلى الملايين بسبب شعار “خليه يريب” تتبرأ من تصريح مديرها عادل بنكيران، حيث اعتبرت تصرفه لا علاقة له بسياسة الشركة، واعتذرت “سنطرال دانون” عن زلة التخوين التي وردت على لسان مديرها، مؤكدة أن أرباحها في الوحدة الإنتاجية من الحليب لا تتجاوز 20 سنتيما.
بل لم تمض بضعة أيام، وبسبب شدة الهجمة التي شنها المقاطعون ضد وصفهم بالخونة، حتى نشر عادل بنكيران فيديو في أقل من دقيقة، يعتذر فيه عن وصف مقاطعي الحليب بـ “خونة الوطن”، وقال: “أنا غلطت، وكنعتذر لكل المغاربة ولأي واحد جرحو تصريحي”، وبرر فلتة لسانه بالتأثر بحجم خسائر الشركة جراء المقاطعة وحجم الضرر الذي سيمس آلاف الفلاحين الصغار.
أخنوش: “لن أركع”، وبنصالح: “نتفهم”
وحده عزيز أخنوش ظل يردد أنه لن يغير موقفه حتى ولو تشبث المقاطعون بسلاح مقاطعة محروقات “إفريقيا غاز”، فبالنسبة إليه، لن ينجح أحد في إقناعه ببراءة الحملة التي استهدفت المواد الاستهلاكية الثلاث، وبعض مقربيه يذهبون أبعد من ذلك حين يلبسون القضية ببعد عرقي/ إثني، “إن أهل فاس يحاربون الشلوح وسواسة لأنهم يصلون إلى مراكز صنع القرار السياسي، والذين يقاطعون “غاز إفريقيا” إنما يستهدفون ليس شخص أخنوش فقط، بل كل النخبة السوسية التي وصلت إلى الحكم بعد عقود من التغييب القسري”، يصرح لـ”الأيام” قيادي بحزب الحمامة مقرب من عزيز أخنوش !
فيما شركة “أولماس” التي تنتج “سيدي علي” والتابعة لهولدينغ “هولماك’ لسيدة الأعمال مريم بنصالح، فقد خرجت ببلاغ صحافي تؤكد فيه أنها تتفهم المقاطعة وارتفاع الثمن، لكنها حملت مسؤولية غلاء أثمنة تسويق مياه سيدي علي إلى الضرائب التي سنتها الدولة، وإلى نفقات كثيرة منها ارتفاع تكلفة إنتاج المياه المعدنية والمواد الأولية، اللوجستيك واستهلاك المعدات وحصة الموزعين وهوامش ربح التجار بالتقسيط، وتحملات النقل والتوزيع، وخلصت الشركة من خلال بلاغها المعمم بعد مرور ثلاثة أسابيع على مقاطعة منتوجها، إلى أنها لا تحقق هامش ربح خياليا كما يتداوله المقاطعون، وأنها لا تجني سوى 40 سنتيما في القنينة الواحدة من ماء سيدي علي، أي 7 ٪ فقط.
ودافعت “والماس” عن منتوجها ضد ما أسمته بـ “المعلومة المغلوطة” التي تم تداولها على مواقع الاتصال الاجتماعي، حول جودة مياهها المعدنية، ووعدت الجمعيات المدنية المهتمة بالمستهلكين ووسائل الإعلام وكل المعنيين بأنها ستمدها بكل المعلومات المرتبطة بمنتوجها الاستهلاكي.
وعبرت شركة سيدة الأعمال مريم بنصالح، رئيسة الباطرونا، عن استعدادها لخفض أثمنة بيع منتوجها من ماء “سيدي علي” إذا ما خفضت الدولة من ضرائب “TVA” على استهلاك المنتوج من 20 ٪ إلى 7٪.
المقاطعون والحكومة “الدائخة”
خلق نجاح حركة مقاطعة المواد الاستهلاكية الثلاث بسبب الالتفاف الشعبي ارتباكا ملحوظا في صفوف الحكومة، فبعد نعت بوسعيد للمقاطعين بـ “المداويخ”، وبعد صمت طويل خرج لحسن الداودي على الرأي العام بتصريح يعبر فيه عن براءة الحكومة من أي زيادة في ثمن المحروقات، وأن الأمر خاضع لحرية أسعار السوق، فارتفاع سعر البترول في السوق الدولية يكون له انعكاس مباشر على أثمنة المحروقات بالمغرب، وأضاف الوزير معلقا: “أعتقد أن المغرب ليس دولة شيوعية”، أما بخصوص مضاعفات المقاطعة على شركة الحليب، فعبر وزير الشؤون العامة والحكومة عن تخوفه من أن تضع شركة “سنطرال ـ دانون” مفاتيحها وتغادر المغرب وتترك وراءها عمالا مشردين ومعطلين !
لم يكن الرد هذه المرة فقط من المقاطعين الذين هاجموا لحسن الداودي بسبب تصريحه، وأخرجوا من الأرشيف فيديو يبرز فيه الوزير الحالي وهو يدافع ضد ارتفاع الأسعار ويقول بالبرلمان إن الشعب يبكي بسبب غلاء المعيشة… بالطبع هذا كان أيام المعارضة، بل جاء الرد من الشركة المعنية التي أكدت أنها “شركة مواطنة ولن تغادر المغرب، وستستمر في تزويد المغاربة بالحليب، وأنها لا تفكر في هكذا خيار يضر بالاقتصاد الوطني”، فسقط بين يدي الوزير الداودي.
الحكومة تبلغ، تتوعد ثم تنفي وتصحح
على هامش لقاء تشاوري جمع قيادة حزب العدالة والتنمية بالمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، ورد في كلمة سعد الدين العثماني حول المقاطعة ما فهم منه “المقاطعون” أن رئيس الحكومة وصفهم بـ “المجهولين”، والعبارة موضوع الالتباس التي فاه بها العثماني كما استخلصناها من فيديو موثق للحدث هي: “لا ندري من يوجه هذه الاتهامات، لذلك نحن لن نجيب عن مجهولين”.. والتي كانت جوابا عن سؤال لصحافي حول اتهام حزب العدالة والتنمية بأنه وراء إطلاق حركة المقاطعة.
لكن النقطة التي أفاضت الكأس هي العبارة الواردة في البلاغ الحكومي الصادر يوم الخميس 10 ماي الجاري، والتي جاء فيها: “إن الحكومة لن تتسامح بأي شكل من الأشكال مع استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لنشر أخبار زائفة بسوء نية أو إشاعات من شأنها الإضرار بالمكتسبات المحققة في بلادنا على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية”، وأكدت عزمها على “التصدي بكل حزم لكل المحاولات الهادفة إلى النيل من المقاولات المغربية والاقتصاد الوطني”.
وكانت تصريحات الوزير مصطفى الخلفي، على هامش المجلس الحكومي، النقطة التي أفاضت غضب “المقاطعين”، الذين اعتبروا الأمر تهديدا بإدخال “40” مليون مغربي إلى السجن، وشن “المقاطعون حملة هجومية على الحكومة، استخدمت فيها فيديوهات لما كانوا يصرحون به أيام كان حزب العدالة والتنمية في المعارضة، والكومكس والصورة والكاريكاتير والشعر والغناء.. بل لقد أصبح للمقاطعة نشيد رسمي.. ومن لغا فلا حكومة له!
المقاطعة تمس بشظاياها قطاع الإعلام
في إحدى نشراتها الإخبارية، بثت القناة الثانية خبرا حول المقاطعة، أوردت فيه لقطة تبرز صحافي القناة وهو يطرح سؤالا على رئيس الحكومة حول موقفه من المقاطعة، على هامش اجتماع المجلس الحكومي ليوم الخميس 10 ماي الجاري، وعلقت دوزيم بكون العثماني “تحاشى في أكثر من مناسبة الحديث عن حملة المقاطعة التي تستهدف ثلاث شركات، وتحاشى أيضا استعمال مصطلح المقاطعة خلال اجتماع المجلس الحكومي بحضور الإعلام”.
التغطية التي كانت مدتها 8 دقائق خلقت تشنجا بين دوزيم والحكومة، فقد غضب سعد الدين العثماني وأرسل ديوانه بلاغا تنديديا إلى إدارة القناة الثانية، يصف فيه سلوك القناة بـ “غير المهني” و”المبني على معالجة غير سليمة”، وطالبها باعتذار رسمي، لكن قناة عين السبع كان لها رد غير متوقع دفع محمد يتيم، وزير التشغيل والادماج المهني، ليكتب على صفحته الفايسبوكية تعليقا ذا مغزى: “دخلت دوزيم على خط المقاطعة.. العجب العجاب !”.
رد دوزيم جاء من خلال بثها يوم السبت 12 ماي في نشرة الظهيرة روبورتاجا نقلت من خلاله آراء المواطنين حول المقاطعة، وتأكيدهم على مواصلة الحركية الشعبية بمقاطعة المواد الاستهلاكية الثلاث.
المقاطعة إلى متى؟ إلى أين؟
خوف المسؤولين من الحركية الاجتماعية التي ولدتها المقاطعة ليس في الوقوف عند حدود مقاطعة المواد الاستهلاكية الثلاث، إذ صرح مسؤول وازن لـ “الأيام”: “حتى أجهزة الدولة تتفهم الحركية الاحتجاجية التي شهدتها مواقع الاتصال الجماهيري حول مواد بعينها، ولذلك، وعلى خلاف الحكومة ـ لم تتم مواجهة دعاة المقاطعة لا بالتخوين ولا بالهجوم على أشخاص قد يكونون وراء إطلاق مبادرة “المقاطعة”، وهي التي لا تغرب عنها شاذة ولا فاذة، ولكنها التزمت حيادا إيجابيا، لكن التخوف قادم من محاولات ركوب البعض على المقاطعة، لتوجيهها لغير المطالب الاجتماعية التي يمكن تفهم دواعيها حتى الآن، وأيضا من الاستثمار السياسي للمقاطعة والتوظيف البراغماتي لها من طرف من لهم حسابات سياسية”.
ويضيف ذات المسؤول ـ الذي فضل عدم نشر اسمه ـ “الخـــــوف أيضا من أن تطول حركية المقاطعــة أو تتسع لتشمل غير المواد الاستهلاكية، لتصبح على شكل إضراب مفتوح يسير من وراء الفضاء الافتراضي لوسائل الاتصال.. وهنا سيصبح الضرر أقوى وسيدفع المعنيين لاتخاذ ما يرونه ملائما لمعالجة الوضع”، لأن الخطر سيصبح واضحا باستهداف الاقتصاد الوطني وتخريبه من الداخل، لكن ما يحدث الآن فهو دليل على صحة الجسد الاجتماعي للمغرب، والمشاركة الواسعة للمواطنين في اللعبة السياسية، وهذا هو صلب الديمقراطية التي تسعى المملكة لتقوية مؤسساتها”.
وبــــالفعل، فقد أطلق المقاطعون عريضة دولية على موقع “أفاز” العالمي، يحتجون من خلالها على وزير الاقتصاد والمالية الذي وصف المقاطعين بـ “المداويخ” ويدعون إلى اعتذاره وإلى عزله من الحكومة..
هل يتوقف الأمر عند هذا الحد، أم ننتظر غدا مقاطعة لخروف عيد الأضحى تحت شعار “خليه يصوف” ومقاطعة الزواج تحت شعار “خليها تبير”.. لا تقبضوا على قلوبكم، إن الأمر يتعلق فقط بمستملحات جلبها التيار الجارف للمقاطعة.